محاولات ترامب للسيطرة على مؤسسات الحكم- صراع مبكر

يسعى الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، إلى بسط نفوذه وهيمنته السياسية على مؤسسات الدولة الفدرالية الأمريكية، وذلك عن طريق انتقاء وزراء يدينون له بالولاء المطلق، مما ينذر بمعارك سياسية وقضائية طاحنة، يسعى ترامب إلى حسمها مبكرًا لصالحه وإرساء قواعد جديدة.
وإذا ما تكللت جهوده هذه بالنجاح، فإنه سيحقق ما صرح به مرارًا وتكرارًا خلال حملته الانتخابية، من ملاحقة خصومه الذين يصفهم بـ"الأعداء من الداخل"، بالإضافة إلى تنفيذ خططه الطموحة لتغيير العديد من الممارسات والسياسات المتبعة في مختلف الدوائر الحكومية، بدءًا من الخدمة المدنية وصولًا إلى المؤسسات الأمنية والعسكرية، مع محاولة التأثير في قيمها الثقافية الراسخة.
ولكن، هل سيتمكن ترامب من تعيين أعضاء إدارته وفقًا لرغباته وتطلعاته؟
فوز مغاير هذه المرة
إن فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية هذه المرة يختلف جوهريًا عن فوزه السابق في انتخابات عام 2016. ففي المرة السابقة، واجه ترامب سهامًا لاذعة من الحزب الديمقراطي، الذي شكك في مشروعية فوزه مستندًا إلى مزاعم حول تدخل روسي لدعمه من خلال نشر الشائعات المغرضة أثناء فترة الحملات الانتخابية، فضلًا عن التذكير بفشله في الحصول على أغلبية أصوات الناخبين الأميركيين.
أما فوزه الحالي، فقد تحقق بفضل رأسمال سياسي وفير، منحته إياه أغلبية أصوات المجمع الانتخابي، بالإضافة إلى أغلبية الناخبين الأميركيين من مختلف الأصول والأعراق والطوائف الدينية في ربوع الولايات المتحدة.
ومع ذلك، قد يقف عدد قليل من أعضاء مجلس الشيوخ كحجر عثرة في المستقبل القريب أمام مساعي الرئيس المنتخب لتعيين مرشحيه، وذلك استنادًا إلى السلطة الواسعة التي يخولها الدستور الأمريكي لمجلس الشيوخ في الموافقة على ترشيحات الرئيس لأعضاء حكومته، تحت مبدأ "النصح والموافقة". وبموجب هذا المبدأ، يمنح مجلس الشيوخ موافقته على أعضاء إدارة الرئيس بعد جلسات مطولة من الاستجوابات والتحقيقات الدقيقة، تسبق إجراءات التصويت النهائي بشأنهم.
يسعى ترامب بكل ما أوتي من قوة لتجاوز عقبة تصويت مجلس الشيوخ من خلال استغلال ثغرة قانونية تمنح الرئيس الحق في تعيين أعضاء حكومته دون الرجوع إلى المجلس، شريطة أن يتم التعيين خلال فترة الإجازة التي لا تنعقد فيها جلساته.
ومع ذلك، يبقى من المستبعد جدًا أن يتخلى أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي عن الصلاحيات الدستورية الممنوحة لهم، أو أن يوافقوا على منح الرئيس سلطة مطلقة في تعيين أعضاء حكومته المقبلة.
فشل ترشيح غيتس لوزارة العدل
لقد أخفق ترامب في مهمة إقناع مجلس الشيوخ الأمريكي ووسائل الإعلام والرأي العام الأميركي بمرشحه لمنصب المدعي العام، وزير العدل، وهو مات غيتس، عضو مجلس النواب المعروف بإثارته للجدل وولائه المطلق لترامب.
وقد تم ترشيح غيتس في وقت يخضع فيه لتحقيقات برلمانية تتناول اتهامات أخلاقية خطيرة، بالإضافة إلى ملاحقات قضائية سابقة تجعله غير مؤهل للشهادة، فضلًا عن تولي قيادة وزارة فدرالية معنية بإرساء قيم العدل والمساواة في المجتمع الأمريكي.
اعتبر الكثيرون ترشيح غيتس بمثابة صفعة موجعة لوزارة العدل، التي لطالما اتهمها ترامب باستهدافه شخصيًا خلال الفترة السابقة. وهدد ترامب باستخدام هذه الوزارة، في حال دخوله البيت الأبيض، في ملاحقة خصومه السياسيين والقانونيين الذين جعلوه، حسب زعمه، هدفًا لتحقيقات قضائية مستمرة وانتهاكات لحقوقه الشخصية، وصلت إلى حد تفتيش منزله الشخصي في ولاية فلوريدا، في سابقة نادرة في التاريخ الأمريكي.
وقد اضطر غيتس إلى سحب ترشيحه نتيجة للشكوك التي أبدتها قيادات جمهورية في مجلس الشيوخ حول فرص الموافقة عليه، بالإضافة إلى التغطية الإعلامية المكثفة التي كشفت جوانب مخجلة من التحقيقات والاتهامات الموجهة إليه في مجلس النواب.
ولم يتأخر ترامب طويلًا في تقديم مرشح بديل، حيث أعلن سريعًا عن ترشيح المدعية العامة السابقة لولاية فلوريدا، بام بوندي، وهي أيضًا عضو في فريق محاميه وتدين له بالولاء المطلق، لتولي منصب وزارة العدل الأميركية.
لا شك أن ترشيح بام بوندي سيحظى بفرص أوفر لنيل موافقة مجلس الشيوخ الأميركي مقارنة بالمرشح السابق غيتس. ومع ذلك، فإن قربها الشديد من الرئيس المنتخب سيلقي بظلال من الشكوك حول قدرتها على الحفاظ على استقلالية وزارة العدل والمؤسسات القضائية الأخرى عن التوجهات والرغبات السياسية والشخصية للرئيس.
مرشح لمنصب وزير الدفاع
لم تكن شخصية بيت هيغسيث، المرشح لمنصب وزير الدفاع، أقل إثارة للجدل من شخصية مات غيتس. فسرعان ما سلطت وسائل الإعلام الأميركية الضوء على عدد من الأخبار المدهشة حول شخصيته وسلوكه الأخلاقي، بدءًا من حادثة تحرش لم يُدَنْ قضائيًا فيها، وصولًا إلى قصة استبعاده من المشاركة، حسب روايته، في تأمين حفل تنصيب الرئيس بايدن في يناير/ كانون الثاني 2021؛ خشية توجهات شخصية معينة لديه أثارها وشم مرسوم على جسده يجسد صليبًا مسيحيًا كان مستخدمًا إبان الحروب الصليبية الأوروبية.
عمل هيغسيث في قناة "فوكس نيوز" الإخبارية ذات التوجهات السياسية المحافظة والموالية للحزب الجمهوري الأميركي، وذلك بعد خدمة في الجيش الأميركي شارك خلالها في حربي العراق وأفغانستان.
ولم يحمل هيغسيث رتبة عسكرية رفيعة كتلك التي نالها جنرالات الجيش المرموقون الذين شغلوا هذا المنصب في إدارات حكومية سابقة. كما أنه لا يمتلك الخبرة الإدارية الكافية التي تمكنه من إدارة البنتاغون الأميركي، الذي تتجاوز ميزانيته السنوية 800 مليار دولار أميركي، ويعمل لديه أكثر من 3 ملايين موظف من عسكريين ومدنيين.
ولكن في المقابل، يُتوقع أن يكون هيغسيث رهن إشارة الرئيس، ومطيعًا لأوامره، متى ما قرر الرئيس مثلًا استخدام الجيش الأميركي في ترحيل المهاجرين غير الشرعيين، أو في أي ظرف طارئ آخر. كما أن لهذا المرشح لوزارة الدفاع مشروعًا أيديولوجيًا محافظًا يهدف إلى إزالة القيم الليبرالية من الجيش الأميركي، مثل مشاركة المرأة في العمليات القتالية، وقضايا حقوق الأقليات الأخرى. وإذا ما حظي هيغسيث بموافقة مجلس الشيوخ الأميركي على ترشيحه، فسيكون من بين أقل وزراء الدفاع الأميركيين خبرة في العصر الحديث.
والقائمة تطول
إن التشكيلة الوزارية القادمة، بصورتها الحالية، تبدو وكأنها ستكون الإدارة الأميركية الأكثر إثارة للجدل على الإطلاق، إضافة إلى أنها قد تفتقر إلى القيم الأخلاقية اللازمة للحفاظ على تقاليد الديمقراطية الأميركية والممارسات السياسية العريقة.
كما أن هذه الإدارة ستبذل جهودًا مضنية لإرضاء الرئيس وتجنب إغضابه، مما قد يحرمه من فرص مناقشة أفكاره وسياساته مع فريق إداري متمرس يحرص على مصالح البلاد الاستراتيجية.
وتضم قائمة المرشحين أسماء عديدة تثير حولها الكثير من الشبهات، مثل: سبستيان غوركا، المرشح لمنصب مدير مكافحة الإرهاب، وتولسي غابارد، المرشحة لمنصب مديرة الاستخبارات الوطنية. كما أن المرشح لمنصب وزارة الصحة الأميركية، روبرت كينيدي الابن، لا يحظى بدعم واسع من العاملين في هذا المجال؛ بسبب مواقفه المناهضة للتطعيم الصحي.
وقد تم اختيار ستيفن ميلر نائبًا لمنصب كبير موظفي البيت الأبيض، وهو سياسي سطع نجمه بقوة خلال فترة حكم ترامب الأولى؛ وذلك لتبنيه سياسات معادية للهجرة الأميركية، مثل سياسات حظر دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة إبان فترة رئاسة ترامب الأولى.
وقد أطلق ميلر تصريحات أكثر تشددًا هذه المرة، ليس فقط ضد ذوي الإقامات غير القانونية في أميركا، بل حتى ضد أولئك الذين حصلوا على الجنسية الأميركية، وذلك بدعوته إلى ضرورة مراجعة طلبات حصولهم على الجنسية الأميركية، والتدقيق فيها بحثًا عن أي بيانات كاذبة أو معلومات مضللة، تمهيدًا لسحبها منهم وترحيلهم من الولايات المتحدة.
ستحمل الأيام القادمة في طياتها الكثير من المعارك القضائية والسياسية المحتدمة، والتي تذكرنا بالدراما التي شهدتها فترة الحكم الأولى للرئيس ترامب. وسيبقى السؤال الذي يشغل بال الكثيرين من المراقبين للشأن الأميركي مطروحًا: إلى أي مدى ستصمد المؤسسات الأميركية السياسية في وجه هذه التحديات؟ من الصعب التنبؤ بالإجابة في الوقت الراهن. ولكن، وكما قال شاعر العربية الجاهلي طرفة بن العبد قديمًا:
سَتُبدي لَكَ الأَيّامُ ما كُنتَ جاهِلًا * وَيَأتيكَ بِالأَخبارِ مَن لَم تُزَوِّد